فصل: حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.غُرُورُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَهُمْ فِرَقٌ كَثِيرَةٌ:

فَفِرْقَةٌ مِنْهُمُ اغْتَرُّوا بِالزِّيِّ وَالْهَيْئَةِ وَالْمَنْطِقِ، فَيَجْلِسُونَ عَلَى السَّجَّادَاتِ مَعَ إِطْرَاقِ الرَّأْسِ وَإِدْخَالِهِ فِي الْجَيْبِ كَالْمُتَفَكِّرِ، وَفِي تَنَفُّسِ الصُّعَدَاءِ، وَفِي خَفْضِ الصَّوْتِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُتْعِبُوا أَنْفُسَهُمْ قَطُّ فِي الْمُجَاهَدَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَمُرَاقَبَةِ الْقَلْبِ وَتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مِنَ الْآثَامِ الْخَفِيَّةِ وَالْجَلِيَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَوَائِلِ مَنَازِلِ التَّصَوُّفِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَحُومُوا قَطُّ حَوْلَهَا وَلَمْ يَسُومُوا أَنْفُسَهُمْ شَيْئًا مِنْهَا.
وَفِرْقَةٌ ادَّعَتْ عِلْمَ الْمَعْرِفَةِ وَمُشَاهَدَةَ الْحَقِّ وَمُجَاوَزَةَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمُلَازَمَةَ فِي عَيْنِ الشُّهُودِ وَالْوُصُولَ إِلَى الْقُرْبِ، وَلَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْأُمُورَ إِلَّا بِالْأَسَامِي وَالْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّهُ تَلَقَّفَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّامَّاتِ كَلِمَاتٍ فَهُوَ يُرَدِّدُهَا، وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ أَعْلَى مِنْ عِلْمِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ وَأَصْنَافِ الْعُلَمَاءِ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ، حَتَّى إِنَّ الْفَلَّاحَ لَيَتْرُكُ فِلَاحَتَهُ وَالْحَائِكَ يَتْرُكُ حِيَاكَتَهُ وَيُلَازِمُهُمْ وَيَتَلَقَّفُ مِنْهُمْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْمُزَيَّفَةَ فَيُرَدِّدُهَا كَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنِ الْوَحْيِ وَيُخْبِرُ عَنْ سِرِّ الْأَسْرَارِ، وَيَسْتَحْقِرُ بِذَلِكَ جَمِيعَ الْعِبَادِ وَالْعُلَمَاءِ وَيَقُولُ: إِنَّهُمْ عَنِ اللَّهِ مَحْجُوبُونَ، وَيَدَّعِي لِنَفْسِهِ الْوُصُولَ إِلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَعِنْدَ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ مِنَ الْحَمْقَى الْجَاهِلِينَ، لَمْ يُحْكِمْ قَطُّ عِلْمًا، وَلَمْ يُهَذِّبْ خُلُقًا، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَمَلًا، وَلَمْ يُرَاقِبْ قَلْبًا سِوَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَتَلَقُّفِ الْهَذَيَانِ وَحِفْظِهِ.
وَفِرْقَةٌ وَقَعَتْ فِي الْإِبَاحَةِ وَطَوَوْا بِسَاطَ الشَّرْعِ وَرَفَضُوا الْأَحْكَامَ وَسَوَّوْا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ مُسْتَغْنٍ عَنْ عَمَلِي فَلِمَ أُتْعِبُ نَفْسِي؟ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْأَعْمَالُ بِالْجَوَارِحِ لَا وَزْنَ لَهَا وَإِنَّمَا النَّظَرُ إِلَى الْقُلُوبِ، وَقُلُوبُنَا وَالِهَةٌ بِحُبِّ اللَّهِ وَوَاصِلَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا نَخُوضُ فِي الدُّنْيَا بِأَبْدَانِنَا وَقُلُوبُنَا عَاكِفَةٌ فِي الْحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَنَحْنُ مَعَ الشَّهَوَاتِ بِالظَّوَاهِرِ لَا بِالْقُلُوبِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ قَدْ تَرَقَّوْا عَنْ رُتْبَةِ الْعَوَامِّ وَاسْتَغْنَوْا عَنْ تَهْذِيبِ النَّفْسِ بِالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَأَنَّ الشَّهَوَاتِ لَا تَصُدُّهُمْ عَنْ طُرُقِ اللَّهِ لِقُوَّتِهِمْ فِيهَا. وَكُلُّ هَذَا مِنْ وَسَاوِسَ يَخْدَعُهُمُ الشَّيْطَانُ بِهَا، وَالْإِبَاحَيَّةُ مِنَ الْكُفَّارِ الْمَارِقِينَ. نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ.
وَفِرْقَةٌ ادَّعَوْا حُسْنَ الْخُلُقِ وَالتَّوَاضُعَ وَالسَّمَاحَةَ فَتَصَدَّوْا لِخِدْمَةِ الصُّوفِيَّةِ فَجَمَعُوا قَوْمًا وَتَكَلَّفُوا بِخِدْمَتِهِمْ وَاتَّخَذُوا ذَلِكَ شَبَكَةً لِلرِّيَاسَةِ وَجَمْعِ الْمَالِ، فَيَجْمَعُونَ مِنَ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ وَيُنْفِقُونَ عَلَيْهِمْ لِتَكْثُرَ أَتْبَاعُهُمْ وَيَنْتَشِرَ بِالْخِدْمَةِ اسْمُهُمْ، وَمَا بَاعِثُهُمْ إِلَّا الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ.
وَثَمَّةَ فِرَقٌ أُخَرُ لَا يُحْصَى غُرُورُهَا، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَمْثِلَةٍ تُعَرِّفُ الْأَجْنَاسَ دُونَ الِاسْتِيعَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَطُولُ.

.غُرُورُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ:

وَالْمُغْتَرُّونَ مِنْهُمْ فِرَقٌ: فَفِرْقَةٌ مِنْهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَمَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ لِيَتَخَلَّدَ ذِكْرُهُمْ أَوْ يَذِيعَ صِيتُهُمْ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوا الْمَغْفِرَةَ بِذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ بِنَاؤُهَا مِنْ جِهَاتٍ مَحْظُورَةٍ تَعَرَّضُوا لِسُخْطِ اللَّهِ فِي كَسْبِهَا، وَكَانَ الْوَاجِبُ رَدَّهَا إِلَى مُلَّاكِهَا إِمَّا بِأَعْيَانِهَا وَإِمَّا رَدُّ بَدَلِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَهَمُّ التَّفْرِقَةَ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ خِيفَةَ أَنْ لَا يَظْهَرَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ فَيَكُونُ غَرَضُهُمْ فِي الْبِنَاءِ الرِّيَاءَ وَجَلْبَ الثَّنَاءِ، مَعَ أَنَّ صَرْفَ الْمَالِ إِلَى مَنْ فِي جِوَارِهِ أَوْ بَلَدِهِ مِنْ فُقَرَاءَ وَأَيْتَامٍ أَهَمُّ وَأَفْضَلُ وَأَوْلَى مِنَ الصَّرْفِ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَزِينَتِهَا، فَمَا خَفَّ عَلَيْهِمُ الصَّرْفُ إِلَى الْمَسَاجِدِ إِلَّا لِيَظْهَرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ. وَهُنَاكَ مَحْظُورٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يُصْرَفُ الْمَالُ إِلَى زَخْرَفَةِ الْمَسْجِدِ وَتَزْيِينِهِ بِالنُّقُوشِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِشَغْلِهَا قُلُوبَ الْمُصَلِّينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الصَّلَاةِ الْخُشُوعُ وَحُضُورُ الْقَلْبِ وَذَلِكَ يُفْسِدُ قُلُوبَ الْمُصَلِّينَ؛ فَوَبَالُ ذَلِكَ كُلِّهِ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَغْتَرُّ بِهِ، وَيَرَى أَنَّهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَعَ أَنَّهُ تَعَرَّضَ لِمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى.
وَفِرْقَةٌ يُنْفِقُونَ الْأَمْوَالَ فِي الصَّدَقَاتِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَيَطْلُبُونَ بِهِ الْمَحَافِلَ الْجَامِعَةَ، وَمِنَ الْفُقَرَاءِ مَنْ عَادَتُهُ الشُّكْرُ وَإِفْشَاءُ الْمَعْرُوفِ، وَيَكْرَهُونَ التَّصَدُّقَ فِي السِّرِّ، وَيَرَوْنَ إِخْفَاءَ الْفَقِيرِ لِمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ جِنَايَةً عَلَيْهِمْ وَكُفْرَانًا، وَرُبَّمَا يَحْرِصُونَ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي الْحَجِّ فَيَحُجُّونَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَرُبَّمَا تَرَكُوا جِيرَانَهُمْ جِيَاعًا، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَكْثُرُ الْحَاجُّ بِلَا سَبَبٍ، يَهُونُ عَلَيْهِمُ السَّفَرُ، وَيُبْسَطُ لَهُمْ فِي الرِّزْقِ، وَيَرْجِعُونَ مَحْرُومِينَ مَسْلُوبِينَ، يَهْوِي بِأَحَدِهِمْ بَعِيرُهُ بَيْنَ الرِّمَالِ وَالْقِفَارِ وَجَارُهُ مَأْسُورٌ إِلَى جَنْبِهِ لَا يُوَاسِيهِ وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ: إِنَّ رَجُلًا جَاءَ يُوَدِّعُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَقَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْحَجِّ فَتَأْمُرُنِي بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ: كَمْ أَعْدَدْتَ لِلنَّفَقَةِ؟ قَالَ: أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، قَالَ بشر: فَأَيَّ شَيْءٍ تَبْتَغِي لِحَجَّتِكَ تَزَهُّدًا أَوِ اشْتِيَاقًا إِلَى الْبَيْتِ أَوِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ؟ قَالَ: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ أَصَبْتَ مَرْضَاةَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْتَ فِي مَنْزِلَتِكَ وَتُنْفِقُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَتَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى أَتَفْعَلُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَعْطِهَا عَشَرَةَ أَنْفُسٍ: مَدْيُونًا يَقْضِي دَيْنَهُ، وَفَقِيرًا يَرُمُّ شَعَثَهُ، وَمُعِيلًا يُحْيِي عِيَالَهُ، وَمُرَبِّي يَتِيمٍ يُفْرِحُهُ، وَإِنْ قَوِيَ قَلْبُكَ تُعْطِيهَا وَاحِدًا فَافْعَلْ، فَإِنَّ إِدْخَالَكَ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِ مُسْلِمٍ وَإِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ وَكَشْفَ الضُّرِّ وَإِعَانَةَ الضَّعِيفِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، قُمْ فَأَخْرِجْهَا كَمَا أَمَرْنَاكَ وَإِلَّا فَقُلْ لَنَا مَا فِي قَلْبِكَ فَقَالَ: يَا أبا نصر سَفَرِي أَقْوَى فِي قَلْبِي، فَتَبَسَّمَ بشر- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: الْمَالُ إِذَا جُمِعَ مِنْ وَسَخِ التِّجَارَاتِ وَالشُّبُهَاتِ اقْتَضَتِ النَّفْسُ أَنْ تَقْضِيَ بِهِ وَطَرًا فَأَظْهَرَتِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ وَقَدْ آلَى اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَقْبَلَ إِلَّا عَمَلَ الْمُتَّقِينَ.
وَفِرْقَةٌ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ اشْتَغَلُوا بِهَا يَحْفَظُونَ الْأَمْوَالَ وَيُمْسِكُونَهَا بِحُكْمِ الْبُخْلِ، ثُمَّ يَشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى نَفَقَةٍ كَصِيَامِ النَّهَارِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَخَتْمِ الْقُرْآنِ، وَهُمْ مَغْرُورُونَ؛ لِأَنَّ الْبُخْلَ الْمُهْلِكَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى بَوَاطِنِهِمْ فَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى قَمْعِهِ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ، فَقَدِ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ فَضَائِلَ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا، وَمِثَالُهُ مِثَالُ مَنْ دَخَلَ فِي ثَوْبِهِ حَيَّةٌ وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، وَهُوَ مَشْغُولٌ بِطَبْخِ دَوَاءٍ يُسَكِّنُ بِهِ الصَّفْرَاءَ، وَمَنْ قَتَلَتْهُ الْحَيَّةُ مَتَى يَحْتَاجُ إِلَى دَوَاءٍ؟ وَلِذَلِكَ قِيلَ لبشر: إِنَّ فُلَانًا الْغَنِيَّ كَثِيرُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَقَالَ: الْمِسْكِينُ تَرَكَ حَالَهُ وَدَخَلَ فِي حَالِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا حَالُ هَذَا إِطْعَامُ الطَّعَامِ لِلْجِيَاعِ وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَهَذَا أَفْضَلُ لَهُ مِنْ تَجْوِيعِهِ نَفْسَهُ وَمِنْ صَلَاتِهِ لِنَفْسِهِ مَعَ جَمْعِهِ لِلدُّنْيَا وَمَنْعِهِ لِلْفُقَرَاءِ.
وَفِرْقَةٌ غَلَبَهُمُ الْبُخْلُ فَلَا تَسْمَحُ نُفُوسُهُمْ إِلَّا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ فَقَطْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يُخْرِجُونَ مِنَ الْمَالِ الْخَبِيثَ الرَّدِيءَ الَّذِي يَرْغَبُونَ عَنْهُ، وَيَطْلُبُونَ مِنَ الْفُقَرَاءِ مَنْ يَخْدُمُهُمْ وَيَتَرَدَّدُ فِي حَاجَاتِهِمْ أَوْ مَنْ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِلِاسْتِسْخَارِ فِي خِدْمَةٍ، أَوْ مَنْ لَهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ غَرَضٌ، أَوْ يُسَلِّمُونَ إِلَى مَنْ يُعِينُهُ وَاحِدٌ مِنَ الْأَكَابِرِ مِمَّنْ يَسْتَظْهِرُ بِحَشَمِهِ لِيَنَالَ بِذَلِكَ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً فَيَقُومُ بِحَاجَاتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْسِدَاتٌ لِلنِّيَّةِ وَمُحْبِطَاتٌ لِلْعَمَلِ، وَصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ فَاجِرٌ إِذْ طَلَبَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ عِوَضًا مِنْ غَيْرِهِ. وَغُرُورُ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ لَا يُحْصَى وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْقَدْرَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَجْنَاسِ الْغُرُورِ.
وَفِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْ عَوَامِّ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ اغْتَرُّوا بِحُضُورِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ يُغْنِيهِمْ وَيَكْفِيهِمْ وَاتَّخَذُوا ذَلِكَ عَادَةً، وَيَظُنُّونَ أَنَّ لَهُمْ عَلَى مُجَرَّدِ سَمَاعِ الْوَعْظِ دُونَ الْعَمَلِ وَالِاتِّعَاظِ أَجْرًا، وَهُمْ مَغْرُورُونَ؛ لِأَنَّ فَضْلَ مَجْلِسِ الذِّكْرِ لِكَوْنِهِ مُرَغِّبًا فِي الْخَيْرِ، فَإِنْ لَمْ يُهَيِّجِ الرَّغْبَةَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَالرَّغْبَةُ مَحْمُودَةٌ لِأَنَّهَا تَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، فَإِنْ ضَعُفَتْ عَنِ الْحَمْلِ عَلَى الْعَمَلِ فَلَا خَيْرَ فِيهَا، وَمَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ فَإِذَا قَصَّرَ عَنِ الْأَدَاءِ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ فَلَا قِيمَةَ لَهُ. وَرُبَّمَا يَغْتَرُّ بِمَا يَسْمَعُهُ مِنَ الْوَاعِظِ وَتَدْخُلُهُ رِقَّةٌ كَرِقَّةِ النِّسَاءِ فَيَبْكِي وَلَا عَزْمَ، وَرُبَّمَا يَسْمَعُ كَلَامًا مُخَوِّفًا فَلَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يُصَفِّقَ بِيَدَيْهِ وَيَقُولَ: يَا سَلَامُ سَلِّمْ، أَوْ نَعُوذُ بِاللَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْخَيْرِ كُلِّهِ، وَهُوَ مَغْرُورٌ، وَإِنَّمَا مِثَالُهُ مِثَالُ الْمَرِيضِ الَّذِي يَحْضُرُ مَجَالِسَ الْأَطِبَّاءِ فَيَسْمَعُ مَا يَجْرِي، أَوِ الْجَائِعِ الَّذِي يَحْضُرُ عِنْدَهُ مَنْ يَصِفُ لَهُ الْأَطْعِمَةَ اللَّذِيذَةَ الشَّهِيَّةَ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ مَرَضِهِ وَجُوعِهِ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ سَمَاعُ وَصْفِ الطَّاعَاتِ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا لَا يُغْنِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَكُلُّ وَعْظٍ لَمْ يُغَيِّرْ مِنْكَ صِفَةً تَغْيِيرًا يُغَيِّرُ أَفْعَالَكَ حَتَّى تُقْبِلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِقْبَالًا قَوِيًّا أَوْ ضَعِيفًا وَتُعْرِضَ عَنِ الدُّنْيَا فَذَلِكَ الْوَعْظُ زِيَادَةُ حُجَّةٍ عَلَيْكَ، فَإِذَا رَأَيْتَهُ وَسِيلَةً لَكَ كُنْتَ مَغْرُورًا.
فَإِنْ قُلْتَ: مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ مَدَاخِلِ الْغُرُورِ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ إِذْ لَا يَقْوَى أَحَدٌ عَلَى الْحَذَرِ مِنْ خَفَايَا هَذِهِ الْآفَاتِ، قُلْتُ: الْإِنْسَانُ إِذَا فَتَرَتْ هِمَّتُهُ فِي شَيْءٍ أَظْهَرَ الْيَأْسَ مِنْهُ وَاسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ وَاسْتَوْعَرَ الطَّرِيقَ، وَإِذَا صَحَّ مِنْهُ الْهَوَى اهْتَدَى إِلَى الْحِيَلِ وَاسْتَنْبَطَ بِدَقِيقِ النَّظَرِ خَفَايَا الطَّرِيقِ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْغَرَضِ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْزِلَ الطَّيْرَ الْمُحَلِّقَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَعَ بُعْدِهِ مِنْهُ اسْتَنْزَلَهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْخِرَ السِّبَاعَ وَالْفِيَلَةَ وَعَظِيمَ الْحَيَوَانَاتِ اسْتَسْخَرَهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ حِيَلِ الْآدَمِيِّ، كُلُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَمَّهُ أَمْرُ دُنْيَاهُ فَلَوْ أَهَمَّهُ أَمْرُ آخِرَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا شُغْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ تَقْوِيمُ قَلْبِهِ، وَلَمَّا تَخَاذَلَ عَنْ تَقْوِيمِ قَلْبِهِ ظَنَّهُ مُحَالًا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحَالٍ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَلَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَيْضًا مَنْ صَدَقَتْ إِرَادَتُهُ وَقَوِيَتْ هِمَّتُهُ، بَلْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى عُشْرِ تَعَبِ الْخَلْقِ فِي اسْتِنْبَاطِ حِيَلِ الدُّنْيَا وَنَظْمِ أَسْبَابِهَا.
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ قَرَّبْتَ الْأَمْرَ فِيهِ مَعَ أَنَّكَ أَكْثَرْتَ فِي ذِكْرِ مَدَاخِلِ الْغُرُورِ فَبِمَ يَنْجُو الْعَبْدُ مِنَ الْغُرُورِ؟ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْجُو مِنْهُ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: بِالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَابُدَّ مِنْهَا:
أَمَّا الْعَقْلُ فَأَعْنِي بِهِ الْفِطْرَةَ الْغَرِيزِيَّةَ وَالنُّورَ الْأَصْلِيَّ الَّذِي بِهِ يُدْرِكُ الْإِنْسَانُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّ أَسَاسَ السَّعَادَاتِ كُلِّهَا الْعَقْلُ وَالْكِيَاسَةُ.
وَأَمَّا الْمَعْرِفَةُ فَأَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَرَبَّهُ وَيَعْرِفَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ ثَارَ مِنْ قَلْبِهِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ حُبُّ اللَّهِ وَبِمَعْرِفَةِ الْآخِرَةِ شِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَبِمَعْرِفَةِ الدُّنْيَا الرَّغْبَةُ عَنْهَا، وَيَصِيرُ أَهَمُّ أُمُورِهِ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذَا غَلَبَتْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ عَلَى قَلْبِهِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَانْدَفَعَ عَنْهُ كُلُّ غَرُورٍ مَنْشَؤُهُ تَجَاذُبُ الْأَغْرَاضِ وَالنُّزُوعُ إِلَى الدُّنْيَا وَالْجَاهِ وَالْمَالِ، وَمَا دَامَتِ الدُّنْيَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْآخِرَةِ، وَهَوَى نَفْسِهِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ رِضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنَ الْغُرُورِ، فَإِذَا غَلَبَ حُبُّ اللَّهِ عَلَى قَلْبِهِ بِمَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ وَبِنَفْسِهِ الصَّادِرَةِ عَنْ كَمَالِ عَقْلِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْمَعْنَى الثَّالِثِ، وَهُوَ الْعِلْمُ، أَعْنِي الْعِلْمَ بِمَا يُقَرِّبُهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا يُبْعِدُهُ عَنْهُ، فَيَعْرِفُ مِنَ الْعِبَادَاتِ شُرُوطَهَا فَيُرَاعِيهَا وَآفَاتِهَا فَيَتَّقِيهَا، وَمِنَ الْعَادَاتِ أَسْرَارَ الْمَعَايِشِ وَمَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ بِأَدَبِ الشَّرْعِ، وَمَا هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فَيُعْرِضُ عَنْهُ، وَمِنَ الْمُهْلِكَاتِ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْعَقَبَاتِ الْمَانِعَةِ فِي طَرِيقِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنَ اللَّهِ الصِّفَاتُ الْمَذْمُومَةُ فِي الْخُلُقِ، فَيَعْلَمُ الْمَذْمُومَ وَيَعْلَمُ طَرِيقَ عِلَاجِهِ، وَيَعْرِفُ مِنَ الْمُنْجِيَاتِ الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةَ الَّتِي لَابُدَّ وَأَنْ تُوضَعَ خَلَفًا عَنِ الْمَذْمُومَةِ بَعْدَ مَحْوِهَا.
فَإِذَا أَحَاطَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ أَمْكَنَهُ الْحَذَرُ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا مِنَ الْغُرُورِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَغْلِبَ حُبُّ اللَّهِ عَلَى الْقَلْبِ، وَيَسْقُطَ حُبُّ الدُّنْيَا مِنْهُ حَتَّى تَقْوَى بِهِ الْإِرَادَةُ، وَتَصِحَّ بِهِ النِّيَّةُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَوْنَ وَالتَّوْفِيقَ وَحُسْنَ الْخَاتِمَةِ آمِينَ.

.كِتَابُ التَّوْبَةِ:

.حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ:

اعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ مَعْنًى يَنْتَظِمُ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: عِلْمٍ وَحَالٍ وَفَعْلٍ، وَالْأَوَّلُ مُوجِبٌ لِلثَّانِي، وَالثَّانِي مُوجِبٌ لِلثَّالِثِ إِيجَابًا اقْتَضَاهُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ.
أَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ مَعْرِفَةُ عِظَمِ الذُّنُوبِ وَكَوْنِهَا سَمُومًا مُهْلِكَةً وَحِجَابًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ كُلِّ مَحْبُوبٍ، فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً مُحَقَّقَةً بِيَقِينٍ غَالِبٍ عَلَى قَلْبِهِ ثَارَ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَأَلُّمٌ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ مَهْمَا شَعَرَ بِفَوَاتِ مَحْبُوبِهِ تَأَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ فَوَاتُهُ بِفِعْلِهِ تَأَسَّفَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُفَوِّتِ فَيُسَمَّى تَأَلُّمُهُ بِسَبَبِ فِعْلِهِ الْمُفَوِّتِ لِمَحْبُوبِهِ نَدَمًا، فَإِذَا غَلَبَ هَذَا الْأَلَمُ عَلَى الْقَلْبِ وَاسْتَوْلَى انْبَعَثَ مِنْ هَذَا الْأَلَمِ فِي الْقَلْبِ حَالَةٌ أُخْرَى تُسَمَّى إِرَادَةً وَقَصْدًا إِلَى فِعْلٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَالِ وَبِالْمَاضِي وَبِالِاسْتِقْبَالِ، أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالْحَالِ فَبِالتَّرْكِ لِلذَّنْبِ الَّذِي كَانَ مُلَابِسًا، وَأَمَّا بِالِاسْتِقْبَالِ فَبِالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ الْمُفَوِّتِ لِلْمَحْبُوبِ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ، وَأَمَّا بِالْمَاضِي فَبِتَلَاقِي مَا فَاتَ بِالْخَيْرِ وَالْقَضَاءِ إِنْ كَانَ قَابِلًا لِلْخَيْرِ.
فَالْعِلْمُ وَالنَّدَمُ وَالْقَصْدُ الْمُتَعَلِّقُ بِالتَّرْكِ يُطْلَقُ اسْمُ التَّوْبَةِ عَلَى مَجْمُوعِهَا. وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ اسْمُ التَّوْبَةِ عَلَى مَعْنَى النَّدَمِ وَحْدَهُ، وَيُجْعَلُ الْعِلْمُ كَالْمُقَدِّمَةِ وَالتَّرْكُ كَالثَّمَرَةِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: النَّدَمُ تَوْبَةٌ.
إِذْ لَا يَخْلُو النَّدَمُ مِنْ عِلْمٍ أَوْجَبَهُ وَأَثْمَرَهُ وَعَنْ عَزْمٍ يَتْبَعُهُ وَيَتْلُوهُ.

.بَيَانُ وُجُوبِ التَّوْبَةِ وَفَضْلُهَا:

اعْلَمْ أَنَّ وُجُوبَ التَّوْبَةِ ظَاهِرٌ بِالْأَخْبَارِ وَالْآيَاتِ، وَهُوَ وَاضِحٌ بِنُورِ الْبَصِيرَةِ عِنْدَ مَنْ شَرَحَ اللَّهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ صَدْرَهُ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ أَنْ لَا سَعَادَةَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ إِلَّا فِي لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ كُلَّ مَحْجُوبٍ عَنْهُ شَقِيٌّ لَا مَحَالَةَ مَحُولٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِي مُحْتَرِقٌ بِنَارِ الْفِرَاقِ وَنَارِ الْجَحِيمِ، وَعَلِمَ أَنْ لَا مُبْعِدَ عَنْ لِقَاءِ اللَّهِ إِلَّا اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ، وَلَا مُقَرِّبَ مِنْ لِقَائِهِ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ بِدَوَامِ ذِكْرِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الذُّنُوبَ سَبَبُ كَوْنِهِ مَحْجُوبًا مُبْعَدًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَشُكُّ فِي أَنَّ الِانْصِرَافَ عَنْ طَرِيقِ الْبُعْدِ وَاجِبٌ لِلْوُصُولِ إِلَى الْقُرْبِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ الِانْصِرَافُ بِالْعِلْمِ وَالنَّدَمِ وَالْعَزْمِ، وَهَكَذَا يَكُونُ الْإِيمَانُ الْحَاصِلُ عَنِ الْبَصِيرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَتَرَشَّحْ لِهَذَا الْمَقَامِ فَيُلَاحِظُ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْآثَارِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النُّورِ: 31] وَهَذَا أَمْرٌ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التَّحْرِيمِ: 8] وَمَعْنَى النَّصُوحِ الْخَالِصُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِيًا عَنِ الشَّوَائِبِ.
وَيَدُلُّ عَلَى فَضْلِ التَّوْبَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 222] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنَبَ لَهُ» وَالْأَخْبَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.